أحيانا أرجع لقراءة بعض الكتب عن أحوال مصر ما قبل الثورة و أسعد و أحمد الله على ما نحن فيه الآن, و بالرغم من كل المشاكل المحيطة بنا, إلا إني أيضا أقول هذا أفضل من السابق بكثير, و القادم أفضل بإذن الله
من ضمن ما قرأت كتاب ساخر إسمه (مصر بتلعب) لمحمد توفيق, و هو كتاب سياسي اجتماعي يرصد حالة اللامبالاة و السلبية التي كنا نعاني منها قبل الثورة, و يربط هذا بتأثير كرة القدم في حياتنا, و يتناول الكثير من الإسقاطات و العلاقات بين السياسية و كرة القدم, و يلخص الكاتب فكرته في طرح سؤال عن كيفية تحول المجتمع المصري من لاعب أساسي يتحكم في حياته و مصيره الى جمهور يكتفي بالمشاهدة. و هو تشبيه أكثر من رائع و دقيق لما كان عليه الحال, حتى حدثت الثورة العظيمة.
لم يكن أكثر المتفائلين يتوقع ما حدث في الثورة, و ثبت فشل نظريات كل المفكرين الذين كانوا متأكدين من سيطرة كرة القدم و الهيافة و السلبية على العقلية المصرية خاصة فئة الشباب, فظهرت في الثورة أعلام الوطن لأول مرة خارج الإستاد و المناسبات الكروية, و كان الشباب يهتف لرموز سياسية و وطنية لأول مرة أيضا منذ عقود, و ظهرت صور عديدة في التحرير و غيره تدل على وطنية جارفة و وعي فكري غير مسبوق بين شعوب العالم, و لا انحياز في هذا.
فإذا استخدمت نفس التشبيه الذي بدأه الأستاذ محمد, فكأن الوضع السياسي في مصر كان فعلا عبارة عن فريق واحد يلعب تقسيمة لكي يظهر للناس أن هناك فريقين, و كان كل من هو ليس في الفريق من الجمهور الصامت الغير مهتم بنتيجة المباراة الزائفة, حتى أن بعض لاعبى الفريقين كانوا حمهور و لكن يلزم وجودهم بالملعب لكي يكتمل العدد اللازم! و ما حدث في الثورة أن جاء عدد من اللاعبين الشرفاء الذين رفضوا استمرار المباراة بهذا الشكل المهين. و قاموا بطرد الفريقين من الملعب, و أصبح الملعب خالي من اللاعبين فجأة, و لكن الحقيقة أن كان هناك خمسين فريق بيسخنوا على الخط ! ما أسميناه لاحقا بالقفز على الثورة.
و بعد خلو الملعب, بدأ نزول اللاعبين و الفرق المختلفة, و بدأت الفوضى التنافسية و الفكرية في الحدوث, في مشهد مشابه لما حدث في مباراة الزمالك و الأفريقي التونسي, مع اختلاف الفرق و النوايا. و حتى الإن لا نستطيع أن نحصي عدد الفرق الموجودة بالملعب السياسي, أو تقدير قدرة كل فريق الفنية و التنافسية, و شعبيته بين الجماهير, ربما لأنه لا يوجد الآن جماهير!
و هنا تفسيري لما يحدث, و هو ان الشعب المصري قد فاض به أن يجلس بين صفوف الجماهير, و يريد أن ينزل و يلعب و يسجل و لا يريد أن يستوعب أن الجماهير و الإعلام و الحكام و المدربين و النقاد هم من عناصر اللعبة الضرورية أيضا, فلعبة كرة القدم ليست فقط لاعبين, و حتى داخل الفريق ليس كل اللاعبين مهاجمين و هدافين. المشكلة أن كل المصريين الآن يشعروا أنهم يريدوا احراز الهدف بنفسهم, إما بسبب الشوق الى التهديف بعد صيام عقود طويلة, أو خشية من تصنيفهم بالسلبية أو اللامبالاة كما في السابق. و هذا خطأ بَيـِن, لأن السلبية هي عدم المشاركة, و المشاركة هنا بمستوياتها المختلفة بدءا من الملاحظة و ابداء الرأي مرورا بالإجتهاد في العمل و استنهاض الأمة و انتهاءا بالمشاركة السياسية الحقيقية الفعالة المستندة الى خبرة و فكر واعي. و هو ما يشبه أيضا عناصر لعبة كرة القدم المختلفة.
رجوعا الى التشبيهات الكروية, تخيل واحد بكرش و مالوش فيها واقف على الخط و مصمم انه ينزل الملعب و مصدق انه هو اللي هيجيب الجون, أكيد منظره هيكون مثل سمير غانم في فيلم 4-2-4. أو فريق كلة لاعبين مهاجمين و لا يوجد لهم مدرب واعي يضع الخطة و يراقب أداء اللاعبين, و يقوم بتبديل اللاعب الغير موفق, سيصبح اللعب ارتجالي فردي و غير مؤثر على الإطلاق. إضافة الى ذلك, وجود خمسين فريق متنافس في أرض الملعب, هيكون صعب تحدد إي هدف يجب أن تصوب عليه, و هل هذا مرمى المنافس أم مرماك, و هل أنت خاسر أم فائز..مما يفقد المباراة جدواها و يصبح اللعب مجرد تضييع مجهود عالفاضي.
و بالرغم من أن التعددية السياسية ضرورة, و لكن في اطار منظم يضمن وجود تنافسية حقيقية و لهدف واحد هو تقديم الأفضل للوطن, و على الجماهير و بقية عناصر اللعبة أن تلاحظ و تشجع الأفضل, أو تنزل الى أرض الملعب ثانية و تطرد كل من في الملعب إذا استدعى الأمر.